فصل: وجوه القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

أولاً: استجابة الله دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء.
ثانياً: عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد.
ثالثاً: عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار.
رابعاً: خصال الكفارة مرتبة لا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها.
خامساً: حدود الله يجب التزامها، ولا يجوز تعديها.

.حكمة التشريع:

لقد شرع الإسلام الزواج عقداً دائماً غير مؤقت، لا يقطعه إلا هاذم اللذات، أو أبغض الحلال إلى الله، وبالزواج يَحِلُّ للرجل كلُّ شيء من زوجه، في حدود ما أباحه الله تعالى له، فإذا جاء الإنسان يريد أن يغيَّر ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً، فقد ارتكب كبيرة لا محالة، وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى خصال الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه، فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربيَّ نفسه، وتقوّم ما أعوج من تربيته.
هذا إن كان صحيح الجسم، موفور الصحة، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم، ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع، وفائدة الرجل نفسه.
هذا جزاء من حرَّم حلالاً، فليتعظ المؤمنون بهذا الجزاء الزاجر.

.تفسير الآيات (11- 13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
[2] نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم:

.التحليل اللفظي:

{تَفَسَّحُواْ}: توسّعوا في المجلس وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: إفسح عني أي تنحّ، يقال: بلدة فسيحة، ومفازه فسيحة، ولك فيه فسحة أي سعة.
قال القرطبي: وفَسَح يَفْسَح مث مَنَع يَمْنَع، أي وسّع في المجلس، وفَسُح يَفْسُح مثل كَرُم يكْرُم، أي صار واسعاً، ومنه مكان فسيح.
{انشزوا}: انهضوا وارتفعوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض، قال في (اللسان): النّشْز: المرتفع من الأرض، ونشز الشيء: ارتفع، وتلّ ناشز: مرتفع، وفي التنزيل: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} قرأها الناس بكسر الشين، وأهلُ الحجاز يرفعونها، وهي لغتان ومعناه: إذا قيل انهضوا وقوموا.
{درجات}: أي منازل رفيعة، جمع درجة وهي الرفعة في المنزلة، مأخوذ من الدّرج الذي يُرقى به إلى السطح.
قال في اللسان: والدّرجة: الرفعة في المنزلة، والدّرجة واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، ودرجات الجنة: منازل أرفع من منازل.
{نَجْوَاكُمْ}: النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من (النّجوة) وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يخلوان بسرّهما كخلوّ المرتفع من الأرض عما يتصل به.
وقيل: النجوى من المناجاة وهي الخلاص، وكأنّ المتناجيَيْن يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر.
ومعنى الآية: إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرٍ من الأمور فتصدقوا قبلها.
{وَأَطْهَرُ}: أي أزكى لأنفسكم وأطيب عند الله.
{ءَأَشْفَقْتُمْ}: الإشفاق: الخوف من المكروه، والمعنى: أخفتم وبخلتم بالصدقة، وشقّ ذلك عليكم؟
قال ابن عباس: {أأشفقْتُم} أي أبخلتم بالصدقة. وهو استفهام معناه التقرير.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جلّ ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم توسعوا في المجلس لإخوانكم القادمين فتوسّعوا لهم، وافسحوا لهم، حتى يأخذ القادم مكانه في المجلس، فإن ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس، وإذا فسحتم لهم فإنّ الله تعالى يفسح لكم في رحمته، وينوّر قلوبكم، ويوسّع عليكم في الدنيا والآخرة.
وإذا قيل لكم- أيها المؤمنون- انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير فانهضوا، أو قيل لكم قوموا من مقاعدكم للتوسعة على غيركم فأطيعوا فإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الطاعة، ويرفع درجات المؤمنين، والعلماء العاملين، الذين يبتغون بعلمهم وجه الله، فالعلماء ورثة الأنبياء، ومن يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وليست الرفعة عند الله تعالى بالسبق إلى صدور المجالس، وإنما هي بالعلم والإيمان.
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاته عليه السلام لأمر من الأمور، أن يتصدقوا قبل هذه المناجاة، تعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفعاً للفقراء، وتمييزاً بين المؤمن المخلص، والمنافق المراوغ، فإنّ ذلك أزكى للنفوس، وأطهر للقلوب، وأكرم عند الله تعالى، فإذا لم يتيسر للمؤمن الصدقة فلا بأس عليه ولا حرج.
ثم أخبر تعالى بأنّ عمل الخير كالصدقة وغيرها لا ينبغي أن يخاف منها الإنسان، فقال ما معناه: أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال، فإذا لم تفعلوا ما أُمرتم به، وتاب الله عليكم ورخّص لكم في الترك، فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة ولا تفرِّطوا فيهما وفي سائر الطاعات لأن الله خبير بما تعملون.

.سبب النزول:

أ- روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة في الصفّة، وفي المكان ضيق، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من (المهاجرين والأنصار) فجاء ناس من أهل بدر، منهم (ثابت بن قيس بن شمّاس) وقد سُبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، ويا فلان، فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، ويا فلانن فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه، وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ...}.
ب- وروي عن ابن عباس وقتادة: أنّ قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، في غير حاجة إلاّ لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يردّ أحداً فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول...} الآية.
ج- وروي عن مقاتل: أنّ الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية: {إِذَا ناجيتم الرسول}.

.وجوه القراءات:

1- قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} قرأ الجمهور: {تفسّحوا} بتشديد السين، وقرأ قتادة والحسن: {تفاسحوا}.
2- قرأ الجمهور (في المجلس) بالإفراد على إرادة معنى الجمع، وقرأ عاصم وقتادة (المجالس) بالجمع.
3- قوله تعالى: {انشزوا فَانشُزُواْ}: قرأ الجمهور بضم الشين فيهما، وقرأ حمزة والكسائي: {انشِزُوا فانشِزُوا} بكسر الشين فيهما، قال الفراء: وهما لغتان مثل يعكفُون ويعرِشُون.
4- قرأ الجمهور (فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة) بالإفراد، وقرئ (صدقات) بالجمع لجمع المخاطبين.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} يفسحْ مضارع لأنه جواب الطلب، وحرّك بالكسر للتخلُّص من التقاء الساكنيْن، ومثله: {يَرْفَعِ الله} مجزوم لأنه جواب الأمر كأنه قيل: إن تنشُزوا يرفع الله عز وجلّ المؤمنين جزاء امتثالهم درجات.
2- قوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} قال أبو حيان: معطوف على الذين آمنوا عطف صفات.
والمعنى: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات، فالوصفات لذاتٍ واحدة.
واختار الطيبي: أن يكون في اللفظ تقدير يناسب المقام نحو أن يقال: يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم.
3- قوله تعالى: {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} أنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ل {ءَأَشْفَقْتُمْ} والله أعلم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: لما نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباعض والتنافر، أمرهم في هذه الآيات بما يكون سبباً لزيادة المحبة والمودّة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على القر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس بين يديه حرصاً على استماع كلامه، فأمروا بالتوسعة على إخوانهم في المجلس تطييباً لقلوبهم، وهذا هو السرّ في مجيء الآيات عقب آيات النهي عن التناجي بالإثم والعدوان.
اللطيفة الثانية: ذكر تعالى في أول الآية مكانة المؤمنين، ثمّ عطف عليها بذكر مكانة العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب (عطف الخاص على العام) تعظيماً لشأن العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب (عطف الخاص على العام) تعظيماً لشأن العلماء كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد اسم لموصول في النظم الكريم في قوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم درجات}.
اللطيفة الثالثة: الأمر للمؤمنين بالصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فوائد عديدة:
أولها: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم مناجاته.
ثانيها: نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة.
ثالثها: الزجر عن الإفراط في الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعها: التمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الدنيا ومحب الآخرة.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}: في هذا اللفظ استعارة يسميها علماء البلاغة (استعارة تمثيلية) وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان كالإنسان فقد استعار اليدين للنجوى، وقيل إنها (استعارة مكنية) حيث شبّه النجوى بإنسان، وحذف المشبّه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليدان على سبيل الاستعارة المكنية ومثله قوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وذكر اليدين تخييل.
اللطيفة الخامسة: أشاد القرآن بمنزلة العلماء الرفيعة، ومكانتهم السامية عند الله تعالى، ويكفيهم هذا الشرف والفخر وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام، فبَيْنه وبين النبيّين درجة» وقد ذكر بعض الظرفاء مناظرة رمزية بين (العقل والعلم) نذكرها لطرافتها قال بعض الأدباء:
علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا ** من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا؟

فالعلم قال: أنا أدركتُ غايته ** والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرفا

فأفصح العلمُ إفصاحاً وقال له ** بأيّنا الله في فرقانه اتصفا؟

فبان للعقل أنَّ (العلمَ) سيّدُه ** فقبّلَ (العقلُ) رأسَ العلم وانصرفا

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: ما المراد ب (المجالس) في الآية الكريمة؟
اختلف المفسّرون في المراد بالمجلس على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد به مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو قول مجاهد.
والثاني: أنّ المراد به مجلس الحرب، ومقاعد القتال، حيث كانوا لحرصهم على الشهادة يأبون التوسع، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والثالث: أن المراد به مجالس الذكر كلّها، وهو قول قتادة وهو الأرجح.
قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى ذكرهُ أمر المؤمنين، أن يتفسّحوا في المجلس، ولم يخصّص بذلك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له: مجلس، فذلك على جميع المجالس، من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال.
وقال القرطبي: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، فإنّ كل واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه.
الحكم الثاني: هل يباح الجلوس مكان الشخص بدون إذنه؟
دلّت الآية الكريمة على وجوب التوسع في المجلس للقادم، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، ولكن لا يباح للإنسان أن يأمر غيره بالقيام ليجلس مجلسه لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثمّ يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا».
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجلسُ من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلاّ أن الآداب الاجتماعية تقضي على الناس بتقديم أولي (الفضل والعلم) وبذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث.
ولقد كان هذا الأدب السامي شأن الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يُقدّمون بالهجرة، وبالعلم، وبالسنِّ، وما فعله النبي عليه السلام في جماعة (ثابت بن قيس) من أهل بدر، فإنما كان لتعليم الناس مكارم الأخلاق، وخاصة من أهل الفضل والعلم، من المهاجرين والأنصار.
أ- روى ابن العربي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد طاف به أصحابه، إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف وسلّم، ثمّ نظر مجلساً يشبهه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيّهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالساً على يمين النبي صلى الله عليه وسلم فتزحزح له عن محله، وقال: ها هنا يا أبا الحسن!
فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فقال يا أبا بكر: إنما يعرف الفضل، لأهل الفضل، ذوو الفضل.
ب- وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلّموه في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إيّاه، فقال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تعلم، ثم قال: بهذا قدمت الفتى.
وإذا قام الإنسان من مجلسه لحاجة ثمّ رجع إليه فهو أحقّ بالمجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: «من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به».
الحكم الثالث: هل يجوز القيام للقادم إذا كان من أهل الفضل والصلاح؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القيام للقادم إذا كان مسلماً من أهل الفضل والصلاح على وجه التكريم لأن احترام المسلم واجب، وتكريمه لدينه وصلاحه ممّا يدعو إليه الإسلام، لأنه سبيل المحبّة والمودة، وقد قال عليه السلام: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تُكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك».
فالقيام للقادم جائز على وجه التكرمة، إن لم يكن فاسقاً، ولم يكن سبيلاً للكبرياء والخيلاء، وما لم يصبح ديدناً للإنسان عند كل دخول أو خروج، وفي كل حين وآن فعند ذلك يكره.
قال العلامة ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال، فمنهم من رخّص في ذلك محتجاً بحديث (قوموا إلي سيّدكم). ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث: «من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبَوّأ مقعده من النار» ومنهم من فصّل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلّ عليه قصة (سعد بن معاذ) فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين: قوموا إلى سيّدكم، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم.
أقول: جمهور العلماء على جواز القيام للقادم، إلا إذا كان فاسقاً، أو عاصياً، أو مرتكباً لكبيرة، أو مشهوراً بالكبر، وحب الظهور، وأمّا ما استدل به بعضهم من منع القيام بحديث: «من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً...»الحديث فليس فيه دليل لهم، لأن الرسول عليه السلام لم يُطْلق اللفظ وإنما قيّده بوصفٍ يدلّ على الكبرياء وحب الظهور من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً ولم يقل صلوات الله من قام له الناس فليتبوأ مقعده من النار ولا شكّ أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلا على المتكبر المغرور، والفرق دقيق بين اللفظين فلا ينبغي أن يغفل عنه.
وأما ما يقوله بعضهم: من أنّ القيام ركن من أركان الصلاة، فلذلك يحرم، لأنه يشبه العبادة... إلخ فهذا جهل مطبق لا يصدر من فقيه عالم يتصدى لاستنباط الأحكام!!
كيف والصلاة تشتمل على أركان كثيرة كالقعود، وقراءة القرآن، والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأقوال- كما هو مذهب الإمام الشافعي- فهل يقول أحد: إن الجلوس بين يدي العالم حرام لأنه ركن من أركان الصلاة؟ وإن تلاوة القرآن لا تجوز أمام أحد لأنها ركن من أركان الصلاة؟ وإن الصلاة على النبي عليه السلام حرام في حضرة الناس لأنها ركن من أركان الصلاة؟!!
وقياسُ القيام على الركوع والسجود في الحرمة، قياسٌ مع الفارق، وهو قياس باطل، لأن الركوع والسجود لا يجوز لغير الله كما قال عليه السلام: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقد ورد في تحريمه النص القاطع، أمّا القيام، والقعود، والاضطجاع، فليس من هذا القبيل، وكفانا الله شرّ الجهل، وحماقة المتطفلين على العلم والعلماء!!
الحكم الرابع: هل الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هل الأمر للوجوب أو الندب؟
فقال بعضهم: إنَّ الأمر للوجوب، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومثل هذا لا يُقال إلا في الواجبات التي لا يصح تركها.
وقال آخرون: إن الأمر للندب والاستحباب، وذلك لأنّ الله تعالى قال في الآية: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ومِثلُ هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض.
ومن جهة أخرى: فإنّ الله تعالى قال في الآية التي بعد هذه مباشرة: {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدقات}؟ وهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب.
واتفق العلماء على أن الآية منسوخة، نسختها الآية التي بعدها: {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلاّ ساعة من النهار ثم نسخ.
وقد روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال: (إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلّما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثمّ نُسختْ فلم يعمل بها أحد).
قال القرطبي: (وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليّ رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدلّ على أنّ أحداً لم يتصدّق بشيء، والله أعلم).